‏الاستثناء على مبدأ الفصل بين سلطة الاتهام وسلطة الحكم في نظام الإجراءات الجزائية

يُعد مبدأ الفصل بين سلطة الاتهام وسلطة الحكم من المبادئ الراسخة في الضمير القانوني، وهو مبدأ يقتضيه الشعور بالعدالة كأصل عام، ولكن أحياناً ما يخرج المنظم عن هذا الأصل لاعتبارات أهم وأولى بالرعاية من وجوب كون القضاء سلطة محايدة، وفي حدود معيّنة، حيث أجاز المنظم الخروج عن هذا الأصل وفي حدود حفظ نظام الجلسة بعد محاولة إخراج من يُخل بنظامها، فإنّ لم يستجب أجاز النظام للقاضي الأمر بحبس من يُخل بنظام الجلسة لمدة (24) ساعة وفقاً لنظام المرافعات الشرعية ونظام المرافعات أمام ديوان المظالم، وفرض غرامة لا تزيد عن عشرة ألاف ريال وفقاً لنظام المحاكم التجارية، وذلك حفظاً لهيبة القضاء وفرض الاحترام الواجب له، لذلك أعلى المنظم من قيمة المصلحة المتمثلة في حفظ هيبة محكمة على غيرها من المصالح.

وسمّى قرار المحكمة "أمر" ولا يخل ذلك بكونه حُكم من المحكمة وإنْ لم يجز الاعتراض عليه، وذلك لكونه صادر من سلطة قضائية، وينطق بعقوبة الحبس أو بالغرامة وهي عقوبات جنائية، وتطبيقاً للمبدأ العام «لا عقوبة إلا بحكم» وكل ذلك أمام المحاكم المدنية بصفة عامة والمحكمة الجزائية، إذ ذكرت ذلك المادة (73) من نظام المرافعات الشرعية، والفقرة (1) من المادة (13) من نظام ديوان المظالم والفقرة (1) من المادة (13) من نظام المحاكم التجارية، والمادة (142) من نظام الإجراءات الجزائية.

ورغم أنّ الأمر بالحبس أو بالغرامة الذي ذكرته المواد الواردة بالأنظمة الإجرائية لا يُمثل إلا خروجاً يسيراً على أصل الفصل بين سلطة الاتهام والحكم، فإنّ المنظم قد خرجَ يقيناً عن مبدأ الفصل بين سلطة الاتهام والحكم، لدى المحكمة الجزائية حصراً دوناً عن غيرها من المحاكم وذلك في ثلاثة صور:

الصورة الأولى: جريمة الجلسة، والتي نصّت عليها المادة (143) من نظام الإجراءات الجزائية، في هذه الصورة لا يكون الفعل مُجرد إخلال بنظام الجلسة، بل يتعدى إلى اعتداء على أحد أعضاء القضاء أو موظفيه، فيجوز للمحكمة أنْ تقوم بتوجيه الاتهام للمتهم وتحكم عليه بعد سماع أقواله، وتتميز هذه الصورة عن الإخلال بنظام الجلسة، بأنّ الغرض من تخويل المحكمة تلك السلطة هو الحفاظ على نظام الجلسة لا أكثر، أما في هذه الصورة فالمتهم ارتكب فعلاً أشد من مجرد الصراخ أو تشتيت المحكمة أو غيره، فخوّل المحكمة الجمع بين سلطة الاتهام وتحريك الدعوى الجزائية باتهام المدعى عليه ويخضع الحكم الصادر فيها لطرق الاعتراض، وشروط هذه الحالة، هي:

الشرط الأول: توجيه الاتهام للمدعى عليه: فيشترط أنْ تقوم المحكمة بتوجيه الاتهام للمدعى عليه في ذات الجلسة، وإلا تُنظر الدعوى وفقاً للقواعد العامة وفقاً للمادة 145 من نظام الإجراءات الجزائية.

الشرط الثاني: أنْ يكون نظر القضية من اختصاص المحكمة ذاتها، ويتصور ذلك في القضايا التي يكون الاختصاص فيها منحصراً لدائرة مشتركة أو فردية أو جرائم معيّنة كاختصاص محاكم منطقة الرياض بجرائم الفساد المالي والإداري مثلاً. 

ونشير إلى أنّ الأصل في هذه الحالات أمام المحاكم المدنية أنْ يتم تحرير محضر بارتكاب الجريمة وإحالة الأوراق للجهة المختصة، وقد نصّ على مثل هذا نظام المرافعات الشرعية في الفقرة (2) من المادة (73) "على رئيس الجلسة أنْ يكتب محضر عن كل جريمة تقع أثناء انعقاد الجلسة ثم إحالتها إلى النيابة العامة..." كما نصّ عليه نظام المرافعات أمام ديوان المظالم في الفقرة (2) من المادة (13) "إدارة الجلسة وضبطها منوطان برئيسها، وله في سبيل ذلك اتخاذ أي من الإجراءات الآتية:.....2-أنْ يأمر بكتابة محضر عن كل جريمة تقع أثناء انعقاد الجلسة، وإحالة الأوراق إلى الجهة المختصة....".

 

الصورة الثانية: حالة ارتكاب أفعال تؤثر على احترام المحكمة أو أفعال تقصد التأثير على أعضائها أو أحد أطراف الدعوى أو الشهود، وهذه الحالة متميزة تماماً عما سبق، إذ الفرض أنّها ليست جريمة جلسة، ولكن ارتكب المدعى عليه خارج انعقاد الجلسات أفعالاً تمس احترام المحكمة أو تقصد التأثير على أي من إجراءات سير الدعوى التي تنظرها المحكمة، في هذه الحالة أجاز المنظم أنْ تقوم المحكمة ناظرة الدعوى بتحريك الدعوى الجزائية واتهام المدعى عليه والحكم عليه، وهو ما نصّت عليه المادة 20 من نظام الإجراءات الجزائية.

ونجد تميّز هذه الصورة في أنّها تفتقد للمفترضات التي تقوم عليها جرائم الجلسات والتي أباحت للمنظم إهمال مبدأ الفصل بين سلطة الاتهام والحكم، إذ أنّ هذه الجريمة لا تفترض حالة تلبس، ولا تفترض اعتداء على القضاء أثناء انعقاد الجلسة، ولا تفترض اختصاصاً مكانياً، ولكنها تفترض شرطين اثنين:

الشرط الأول: كون القضية التي وقع بشأنها هذه الأفعال منظورة لدى الدائرة التي ستحكم بها.

الشرط الثاني: كون الدائرة التي وجهت الاتهام مختصة في تشكيلها بنظر هذه القضية، فإذا كانت الدائرة التي وجهت الاتهام فردية، وكانت الجريمة الواقعة يجب أنْ تُنظر من دائرة مشتركة وجب إحالة القضية إلى الدائرة المشتركة، ويقتصر دور الدائرة الفردية على توجيه الاتهام.

 

الصورة الثالثة: حالة وجود وقائع في الدعوى لم يدعي بها المدعي العام ولا تحتاج إلى تحقيق، فيجوز للمحكمة النظر في هذه الوقائع تجاه المدعى عليه، والحكم عليه، وفقاً للمادة (6) من نظام الإجراءات الجزائية، وتجتمع هذه الصورة مع سابقتيها في أنّها مكوّنة لأفعال إجرامية نظرتها الدائرة، وتختلف عنهما في أنّها بالإضافة لذلك تُعد استثناء من مبدأ التقيّد بالحدود العينية والشخصية للدعوى، الذي علّته الفصل بين سلطة الاتهام والحكم، فتجمع المحكمة في هذه الصورة بين سلطة الاتهام بشأنْ هذه الوقائع تجاه المدعى عليه، وسلطة الحكم كذلك.

ويجب أنْ تقرأ هذه المادة مع المادة (19) من ذات النظام التي أوجبت ضرورة إبلاغ المحكمة لجهة الادعاء في الأفعال التي يجب فيها التحقيق (في رأينا)، أي في غير الجرائم الكبيرة الموجبة للتوقيف الواردة بقرار النائب العام رقم (1) يجوز للمحكمة أنْ تضيف للدعوى وقائع مما ثبت لديها من أقوال المتهم أو برأي الخبراء أو أقوال الشهود، إذ بموجب هذه المادة من سلطة المحكمة أنْ تُضيف لوقائع الدعوى الواردة بلائحة الدعوى العامة، فإما أنْ تكون هذه الوقائع مخففة أو مشددة أو تعتبر جريمة أخرى، مع الإشارة إلى حدود تعديل وصف الدعوى في المادة (158) من نظام الإجراءات الجزائية.  

 

 

ويفترض إعمال هذه الصورة شرطين:

الشرط الأول وجود دعوى قد اتصلت بها المحكمة بإحالة الدعوى إليها بناءً على أمر اتهام وفقاً للمادة (126) من نظام الإجراءات الجزائية.

الشرط الثاني: كون هذه الوقائع المُراد توجيه الاتهام بشأنها هي وقائع تُشكل جرائم غير موجبة للتوقيف، أي لا يُعد التحقيق فيها وجوبياً استناداً إلى المادة (65) من نظام الإجراءات الجزائية.

 

عليه نرى أنّ المنظم قد أباح للمحكمة الجزائية دوناً عن بقية المحاكم تحريك الدعوى الجزائية والجمع بين سلطة الاتهام والحكم في الصور السابقة، مع اختلاف علّة الجمع، فإنّ كانت الصورة الأولى تتمثل في جرائم الجلسات التي تتوفر فيها حالة التلبس واحترام هيبة القضاء، فإننا نجد في الصورة الثانية اعتبار واجب احترام هيبة القضاء، ولكن بانتفاء حالة التلبس، وأنّ سبب الجمع يتمثل في تخويل المحكمة ناظرة الدعوى بسلطة الفصل فيما يتفرع عن القضية المنظورة لديها باعتبارها الأقدر كون القضية الأصلية تابعة لها، دون إخلال بالضمانات المتمثلة في كونها مُشكلة تشكيلاً يخولها نظر الدعوى.

كما نجد أنّ المنظم قد خرجَ عن هذا الأصل كذلك في الصورة الثالثة كذلك، التي جمعت للمحكمة سلطة الاتهام والحكم بخصوص وقائع تشملها الدعوى، ولكن غير مُدعى بها، وسلب بموجبه سلطة التحقيق الجوازي التي كانت ستنعقد للمحقق أثناء نظر الدعوى، في حال قررت المحكمة توجيه الاتهام، كما قرر أنْ يكون توجيه الاتهام جوازياً للقاضي حال رأى ما يستوجب النظر في هذه الواقعة مع الدعوى.

 

المحامي

إبراهيم بن أحمد آل إبراهيم

التعليقات

يجب عليك تسجيل الدخول لكي تتمكن من إضافة تعليق تسجيل الدخول