نتناول في هذا المقال مقتطفات من شرح نظام المعاملات المدنية الموجود في قسم شروحات الأنظمة في منصة محاكمة،
حيث نستعرض شرح المواد 261 – 262 – 263 من نظام المعاملات المدنية (آثار الالتزام).
يجب على المدين تنفيذ التزامه عند استحقاقه، فإذا امتنع؛ نفذ عليه جبرًا متى استوفى التنفيذ الجبري شروطه النظاميـــة.
تتناول هذه المادة أحكام الالتزام والقواعد التي تحكم الالتزام منذ نشأته والآثار التي تترتب على نشوء الالتزام.
والأصل هو أن يقوم المدين بالالتزام بتنفيذه بمحض إرادته، وأن عدم قيامه بالتنفيذ طواعيةً؛ يتيح للدائن مطالبة السلطة المختصة بإجباره على التنفيذ.
وعناصر الالتزام ثلاثة:
· رابطة قانونية تربط المدين بالدائن.
· ومحل الالتزام وهو الشيء الذي يلتزم المدين بأدائه للدائن.
· طرف الالتزام وهما الدائن والمدين.
وقد يلحق الالتزام في أحد عناصره الثلاثة وصف يكون من شأنه أن يعدل من هذه الآثار؛ فيكون الالتزام موصوفاً، وهذا الوصف إما أن يلحق بالعنصر الأول من عناصر الالتزام، وهو (رابطة المديونية)، فتعلق هذه الربطة على شرط، ويصبح وجودها غير محقق، ويسمى هذا الوصف بالشرط، أو يتراخى نفاذ الرابطة إلى أجل، ويسمى هذا الوصف بالأجل. ([1])
تعريف التنفيذ الجبري (القهري):
اصطلح على تسمية المدين على تنفيذ التزامه بالتنفيذ الجبري أو التنفيذ القهري، على أنه يجب أن يلاحظ أن إجبار المدين على تنفيذ التزامه لا يتم إلا بواسطة السلطات العامة المختصة، وبحسب الأصل استخدام أساليب ضغط مدنية حديثة، ولا يكون إجبار المدين على تنفيذ التزامه إلا من خلال أمواله وذمته المالية. ([2])
أما القهر البدني أو الحبس فلا يكون إلا استثناء في بعض التشريعات دون البعض الآخر، وذلك لردع المدين الموسر أو المتعنت سيء النية.
ولا يستطيع الدائن أن يجبر المدين على تنفيذ التزامه مستخدماً قوته ووسائله الخاصة؛ لأن هذا يعتبر من قبيل القصاص للنفس الذي يمنعه المشرع أو المنظم في المجتمعات المتحضرة التي حلت فيها سلطة الدولة محل نفوذ الأشخاص.
والالتزام يتكون من عنصرين هما:
عنصر المديونية، وعنصر المسؤولية،
أي عنصر نشوء الالتزام وعنصر إمكان جبر المدين على تنفيذ الالتزام حين يمتنع عن ذلك؛
لذلك فإن الالتزام الطبيعي هو التزام قانوني يفتقر إلى عنصر المسؤولية، وبالتالي فلا يمكن جبر المدين على تنفيذ الالتزام حين يمتنع عن ذلك. ([3])
وإن إجبار المدين على تنفيذ التزامه تنفيذاً عينياً لا يعني قهر المدين أو إجباره قسراً على التنفيذ؛ لما في ذلك من المساس بكرامة المدين وحجر على حريته تأباه كافة الشرائع والنظم القانونية التي تجعل حق الدائن مقصوراً في أموال المدين وتنأى به عن التعرض لشخصه.
وهذه المادة تقابل نص الفقرة الأولى من المادة رقم 199 من القانون المدني المصري:
"1- يُنفذ الالتزام جبراً على المدين،
2- ومع ذلك إذا كان الالتزام طبيعياً؛ فلا جبر في تنفيذه".([4])
وقد أكدت المحكمة العليل بالمملكة العربية السعوديـــة:
"الأصل صحة العقد وسلامته، حتى يأتي ما يوجب إلغاءه"([5])،
"الإنسان مؤول عما في حوزته وتحت يده". ([6])
وقد استقر قضاء محكمة النقض المصرية:
إن مؤدى نصوص المواد 199، 203، 210 من القانون المدني تدل على أن إجبار المدين على تنفيذ التزامه تنفيذاً عينياً لا يعني في الفكر القانوني -تشريعاً وفقهاً وقضاءً- قهر المدين أو إجباره قسراً على التنفيذ؛ لما في ذلك من المساس بكرامة المدين وحجر على حريته تأباه الشرائع كافة التي تجعل حق الدائن مقصوراً في أموال المدين وتنأى به عن التعرض لشخصه.([7])
المقرر -في قضاء محكمة النقض- أنه:
إذا كان الالتزام قابلاً للتنفيذ دون تدخل من المدين؛ فإن حكم القاضي يقوم مقامه في كل التزام تسمح طبيعته بتنفيذه بغير إرادة المدين -طالما تمسك الدائن بالتنفيذ العيني- وفي هذه الحالة يحل الحكم محل التنفيذ ويغني عنه. ([8])
المقرر في قضاء محكمة النقض أن:
مؤدى نص المادة 161 من القانون المدني يدل على أن الأصل في العقود الملزمة للجانبين تعاصر وارتباط تنفيذ الالتزامات المتقابلة الناشئة على وجــــــــــــــه
التبادل أو القصاص، باعتبار أن التزام كل من المتعاقدين يُعد سبباً لالتزام الأخر؛ مما يجيز لكل من العاقدين أن يمتنع عن تنفيذ ما التزم به حتى يقوم العاقد الأخر بتنفيذ الالتزام المقابل وهو امتناع مشروع عن الوفاء يهدف إلى كفالة استمرار التعاصر الزمني في تنفيذ الالتزامات الحالة المتقابلة مع مراعاة حسن النية؛
فلا يجوز للعاقد إساءة استعمال هذا الحق أو الدفع بطريقة لا تتفق مع ما يوجبه حسن النية باتخاذه وسيلة للامتناع عن تنفيذ التزامه إذا كان ما لم ينفذ من الالتزام المقابل قليل الأهمية لدرجة لا تبرر اتخاذ هذا الموقف؛ لتناقضه مع ما يجب توافره من حسن النية في تنفيذ العقد.([9])
وقد استقر إفتاء مجلس الدولة المصري:
تنص المادة 199 من القانون المدني على أن:
1- ينفذ الالتزام جبراً على المدين.
وتنص المادة (203) على أن:
1- يجبر المدين بعد إعذاره طبقاً للمادتين (219) و(220) على تنفيذ التزامه تنفيذاً عينياً متى كان ذلك ممكناً،
واستظهرت الجمعية العمومية أن العقد ينعقد بين طرفيه بمجرد توفر إرادتين متطابقتين بما اصطلح عليه بالإيجاب والقبول، وأنه لا يشترط إفراغ هاتيــــــــــــــــــــــن
الإرادتين في شكل معين، وأنه متى تم التطابق بين الإرادتين؛ فإن شروط العقد تقوم مقام القانون بحيث تصبح حاكمة للعلاقة بين الطرفين، وبذلك يضحى العقد شريعة المتعاقدين؛ فلا يجوز نقضه أو تعديله إلا باتفاقهما أو للأسباب التي يقررها القانون، وأن تنفيذ العقد يجب أن يكون طبقاً لما اشتمل عليه وبطريقة تتفق مع ما يوجبه حسن النية، ويظل حسن النية سائداً في العقود جميعاً سواء فيما يتعلق بتعيين مضمونها أو فيما يتعلق بكيفية تنفيذها، وأنه من الأصول العامة للالتزامات –والتي تطبق على العقود الإدارية والعقود المدنية على حد سواء– أنه إذا أمكن التنفيذ العيني وطلبه الدائن؛ فإن المدين يجبر عليه. ([10])
أنه من الأصول العامة للالتزامات -والتي تطبق على العقود الإدارية والعقود المدنية على حد سواء- أنه إذا أمكن التنفيذ العيني وطلبه الدائن؛ فإن المدين يجبر عليه وأنه لا قيام للمسؤولية العقدية في مجال التنفيذ العيني إذ إنه متى كان التنفيذ العيني ممكناً؛ فلا محل للتعويض عن عدم التنفيذ،
كما استظهرت الجمعية العمومية أن طبيعة العقود الإدارية وأهدافها يحكمها حسن سير المرافق العامة بانتظام واضطراد وجوهر الالتزام فيها انصراف نية المتعاقدين عند إبرام العقد إلى ضرورة الوفاء بحاجة المرفق وتحقيق المصلحة العامة، الأمــــــــــر الذي من مقتضاه ولازمه انفراد جهة الإدارة المنفذ لصالحها العقد بتحديد مدة تنفيذه باعتبارها القوامة على تسيير المرفق العام الذي تديره ولارتباط ذلك بضرورات الصالح العام، وعلى ذلك يتعين على القائم بالتنفيذ تنفيذ الأعمال موضوع التعاقد في الميعاد المتفق عليه، وإلا تحقق بشأنه مناط توقيع غرامة التأخير، وهو ما يستفاد منه لزوماً أن هذه الغرامة تفرض على المتعاقد الملزم بالتوريد أو تنفيذ المقاولة أو النقل أو أداء الخدمات وخلافه،
ومن ثم فلا يتصور قانوناً أن يطالب المتعاقد مع الجهة الإدارية –ولو كان هو الآخر من الجهات الإدارية– بفرض غرامة تأخير على الجهة الإدارية التي يتم التنفيذ لحسابها نتيجة إخلالها بأية التزامات تجاهه؛ حيث إن غرامة التأخير شُرعت قانوناً لصالح الجهة الإدارية المعلنة عن إيجابها في العقد لا من صادف قبوله هذا الإيجاب،
ولا يكون أمام المتعاقد مع الجهة الإدارية في هذه الحالة سوى المطالبة بالتعويض عما يدعيه من إخلالٍ أصابه بضررٍ متى أقام الدليل عليه وكان له مقتضى. ([11])
إذا لم يستوف الالتزام الشروط النظامية لتنفيذه جبرًا؛ يبقى قائمًا في ذمة المدين ديانةً، فإذا وفَّاه مختارًا؛ كان وفاؤه صحيحًا ولا يُعدُّ تبرعًا ولا دفعًا لغير المستحق.
تناولت هذه المادة أحكام الالتزام الطبيعي والواجب الأدبي، وهو التزام إنساني وأخلاقي لا تتبناه القواعد القانونية من حيث فرض وجوده ولا من حيث فرض أدائه على الأشخاص المخاطبين به.
والواقع أن هذه التسمية قد نشأت من الفقه اللاتيني، والواقع الحقيقي بالنسبة للمجتمعات العربية والإسلامية هو أن هذا الالتزام هو التزام ديني وأخلاقي.
وقد أشار النظام الأساسي للحكم في المملكة العربية السعودية في المادة السابعة منه:
"يستمد الحكم في المملكة العربية السعودية سلطته من كتاب الله تعالى، وسنّة رسوله، وهما الحاكمان على هذا النظام وجميع أنظمة الدولة".([12])
وقد جاءت الشريعة الإسلامية، فأقرت الحقوق بجميع أنواعها، وأعطت كلّ ذي حق حقه، ورسمت الطريق في كيفية استعمال هذه الحقوق وأساليب ممارستها بما يحقق التكافل الاجتماعي والتضامن بين الأفراد، وبما يؤمن الاستقرار في المعاملات بشتى صورها، وبما يوازن بين الملكية الخاصة والمصالح العامة وفق النظرية المعروفة في الفقه الإسلامي المسماة (نظرية منع التعسف في استعمال الحق)، ولكن لما كانت النفس البشرية قد جبلت على حب الذات والأنانية، والطمع بما في أيدي الناس والاعتداء على حقوق الآخرين ومحاولة سلبها أو الاستئثار بها أو الاستيلاء عليها إما بالقوة وإما بالحيل؛ لذا أقامت الشرعية الإسلامية نظام القضاء لحفظ الحقوق، وإقامة العدل، وتطبيق الأحكام وصيانة الأنفس والأعراض والأموال، ومنع الظلم والاعتداء، وليستتب الأمن في المجتمع وتسود الطمأنينة ويعم الخير، ولما كان نظام القضاء في الإسلام أروع الأنظمة، وأدقها في تحقيق مقاصده والوصول لغاياته وأهدافه. ([13])
وأن الشريعة الإسلامية قد شددت على الوازع الديني كوسيلة لصيانة الحقوق وعدم الظلم والاعتداء؛ ولهذا إذا تعسرت وسائل الإثبات أو تمكن أحد الخصوم من قلب الحق إلى باطل بإثبات ما ادعاه زوراً وبهتاناً؛
لم يبق إلا الوازع الديني الذي أشار إليه النبي الكريم ﷺ عندما قال:
(إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي بنحو ما أسمع، فمن قضيت له من حق أخـيه شيئاً فلا يأخـذه فإنما أقطع له قطعـة مـن النار فليأخـذها أو ليتركها.[14]
وقد جاء في الحديث القدسي عن أبي ذر رضي الله عنه، عن النبي ﷺ فيما يروي عن ربه عز وجل أنه قال:
يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً؛ فلا تظالموا. ([15])
ولهذا أصبحت القوانين أخيراً تتطلع إلى هذا الجانب العظيم في الشريعة وهو العقيدة والأخلاق، وتحاول جاهدة التوفيق بينه وبين قواعدها وتسعى لتقنين القواعد الأخلاقية في قواعد قانونية تدريجياً، وكان هذا أمل الفلاسفة والمصلحين في الماضي، وهو أمل البشرية في الحاضر، ومهما حاولت بعض القوانين التنكر للعقيدة والأخلاق؛ فسرعـــــان
ما تعود إليها تتلمس فيها الحلول عندما تقف عاجزة عن ضبط تصرفات الأفراد، ويفلت الزمام منها، فجميع القوانين لجأت إلى ذلك في مجال الإثبات عندما تضاءلت الوسائل المادية عن الوصول إلى الحقيقة، وتوقفت حائرة أمام المتداعيين فاضطرت إلى العودة إلى العقيدة والأخلاق تستنجد بقواعدها، وتلتجئ إلى عرينها، وترضى بالاحتكام إلى ضمير الخصم وعقيدته، وتطلب منه اليمين على الفعل أو عدم الفعل، وعلى الاستحقاق وعدم الاستحقاق كما ترتبط القوانين بالأخلاق في الاعتماد على حسن النية وسوء النية، والعمد وسبق الإصرار وكذلك في الاعتماد على مخالفة النظام العام والآداب العامة التي ترتكز على أخلاق الأمة وسلوك أفرادها. ([16])
وإن الباحث في شؤون القوانين يشعر بالتناقض في هذا المسلك القانوني؛ لأن القانون لا يعترف بالجزاء في الحياة الآخرة ولا يتعرض إلى تنمية الأخلاق، وتربية الضمير، وإنما يقف منهما موقفا سلبياً أقرب إلى الإنكار منه إلى الحياد، ويضع الملحد والكافر والفاسق والفاجر، على قدم المساواة مع المؤمن والعادل والتقي والصالح، وإن القانون لا يهمه الخلق ما استقر النظام، ولما تعجز وسائله المادية في الإثبات وكثيراً ما تعجز؛ يعود ليستصرخ الضمير والأخلاق والعقيدة في إثبات الحقوق والوقائع،
على خلاف الشريعة الإسلامية التي تولي عنايتها وتوجيهها إلى الناحية الروحية والمادية معاً؛ لتؤكد التكامل والتجانس في مختلف الأحكام وفي جميع الحالات وتلبي حاجـــــــــــــــة العنصرين المادي والروحي في الإنسان ثم تعتمد عليه بعد ذلك،
وهذا يذكرنا ثانيةً بالأهمية العظمى في استمداد القوانين من التشريع الإسلامي، لأنه يحقق التكامل الطبيعي، ويتناسب مع التكوين البشري، ويؤمن التطبيق السليم الكامل للأحكام، ويقلل الفرار من الالتزامات والحقوق عن طواعية واختيار، أملاً في الثواب وطمعاً في الأجر، وخشية من مراقبة الله تعالى[17].
ويفتقر الالتزام الطبيعي إلى عنصر المسؤولية، ومن ثم لا يجبر المدين على تنفيذه، لكن يؤدي قيام المدين بتنفيذ الالتزام الطبيعي طواعية إلى اكتمال عناصر الالتزام، ومن ثم عدم إمكان رجوع المدين عن الوفاء أو مطالبة الدائن باسترداد ما أداه إليه.
وإن إقرار المدين الصحيح بوجود الالتزام وتعهده بالوفاء أو قيامه بالوفاء بالدين فعلاً يعتبر استكمالاً لعنصر المسؤولية في الدين؛ مما يؤدي إلى تحول الالتزام الطبيعي إلى التزام مدني، ويترتب على صحة الوفاء بالالتزام الطبيعي وتحوله إلى التزام مدني أن المدين لا يستطيع أن يتراجع عن الوفاء أو أن يطالب باسترداد ما أوفاه. ([18])
والالتزام لا ينقضي بمجرد اكتمال مدة التقادم، بل يظل التزاما مدنياً واجب الوفاء إلى أن يدفع بتقادمه، فإذا انقضى الالتزام المدني بالتقادم؛ تخلف عنه التزام طبيعي في ذمة المدين.
ووجه الأهمية في هذه المادة هو:
تميز النظام بالمصطلحات والأحكام الشرعية، وذلك أنه قرر أن ما لا يمكن تنفيذه جبراً، يبقى في ذمة المدين ديانة، وعادةً تذكر الأنظمة والقوانين المقارنة هذا الأمر بمصطلح الالتزام الطبيعي، كما أن الأنظمة المقارنة تقرر سقوط الحق، بينما نظام المعاملات المدنية قرر عدم سقوط الحق، وإنما سقوط تنفيذه جبراً، وإلا فإنه واجب ديانة. ([19])
وقد جاء بالمذكرة الإيضاحية لمشروع القانون المدني:
يشترط لصحة هذا الوفاء أن يقوم به المدين من تلقاء نفسه دون إجبار، وأن يكون حاصلاً عن بينة أي وهو مدرك أن يستجيب لمقتضى التزام طبيعي لا يكفل له القانون جزاء. ([20])
وهذه المادة تقابل نص الفقرة الثانية من المادة رقم 199 من القانون المدني المصري:
"2- ومع ذلك إذا كان الالتزام طبيعياً؛ فلا جبر في تنفيذه".
والمادة 201 من ذات القانون:
"لا يسترد المدين ما أداه باختياره، قاصداً أن يوفي التزاماً طبيعياً".([21])
وقد أكد مجلس القضاء الأعلى بهيئته الدائمة:
"الظاهر معتبر ما لم يطرأ ما يرده بيقين، ولا يُعدل عنه إلا لحجة سالمة من الرد" ([22]).
"الأصل في الإنسان السلامة، ولا يعدل عن هذا الأصل إلا بدليل يرفع هذا الأصل" ([23]).
"الأصل أن الإنسان العاقل مسؤول عن متاعه، وعما فيه" ([24]) .
وقد استقر قضاء محكمة النقض المصرية:
الالتزام لا ينقضي بمجرد اكتمال مدة التقادم، بل يظل التزاماً مدنياً واجب الوفاء إلى أن يدفع بتقادمه، فإذا انقضى الالتزام المدني بالتقادم؛ تخلف عنه التزام طبيعي في ذمة المدين، ولما كان الثابت أن الطاعنين نزلوا عن التقادم بعد أن اكتملت مدته وقبل أن يرفعوا دعواهم التي تمسكوا فيها بانقضاء الدين بالتقادم، فإن مؤدى ذلك أن يبقى الالتزام مدنياً ويلزم الطاعنين بأداء الدين ولا يتخلف عنه التزام طبيعي. ([25])
المقرر –في قضاء محكمة النقض– إنه:
إذا كان الالتزام قابلاً للتنفيذ دون تدخل من المدين؛ فإن حكم القاضي يقوم مقامه في كل التزام تسمح طبيعته بتنفيذه بغير إرادة المدين -طالما تمسك الدائن بالتنفيذ العيني- وفي هذه الحالة يحل الحكم محل التنفيذ ويغني عنه. ([26])
أمثلة تطبيقية:
أقرض شخص شخصاً آخر مبلغ 50 ألف ريال قبل 15 عاماً ولم يسدده، فلما طالبه بالمحكمة أنكر المدعى عليه؛ فإن الدعوى لا تُسمع، لكن هذا لا يعني سقوط الحق في ذمة المدعي عليه ديانة.
الالتزام القائم ديانةً يُعدُّ أساسًا صالحًا لأن يبني عليه المدين التزامًا نظاميًّا.
تناولت هذه المادة الالتزام الأخلاقي وهو ذلك الالتزام الذي لا يمكن جبر المدين بواسطة القضاء على القيام به إذا لم يقم به حراً مختاراً؛ فالمدين به هو الوحيد الذي يقدر هل ينفذ هذا الالتزام أم لا.
وهذا الالتزام يتوافر فيه أحد عناصر الالتزام وهو عنصر المديونية المتمثل في العمل أو الامتناع عن عمل لمصلحة شخص آخر دون عنصر المسؤولية الذي هو جبر المدين على القيام بالتزامه،
ومن أمثلته: التزام الصدق وعدم الكذب، وإعطاء الغني القادر صدقة للفقير المحتاج.
وفي الفقه الإسلامي يعرف هذا الواجب بالواجب ديانة، وهو ذلك الواجب الذي لا يجبر الإنسان بواسطة القضاء على القيام به وليس له عقوبة دنيوية، ولكنه له عقوبة أُخروية،
ومن أمثلته: الالتزام بعدم النفاق والغيبة والنميمة.
والأحكام الفقهية المندرجة تحت قسم المعاملات، والتي يقع في مثلها النزاع ينظر لها باعتبارين:
باعتبار القضاء وباعتبار الديانة،
فأما القضاء فإنما يأخذ بالظاهر الذي يمكن أن ينضبط،
وأما الباطن الذي هو من ذوات الصدور فلله تعالى هو العليم بد دون سواه، وأما البشر فلا سلطان عليهم بالاطلاع على نيات الناس ومكنونات صدورهم، ومن ثم فمحل القاضي هو الظاهر الذي قد يكون الباطن موافقاً، وقد يكون بخلافه. ([27])
ومما ذكره الفقهاء لما يختلف فيه حكم القضاء عن حكم الديانة؛ الكثير من أحكام الطلاق والمداينات والإبراء والظفر بالحق وغيرها من المسائل. ([28])
وهذه المادة تقابل نص المادة رقم 200 من القانون المدني المصري:
"يقدر القاضي، عند عدم النص، ما إذا كان هناك التزام طبيعي، وفي كل حال لا يجوز أن يقوم التزام طبيعي يخالف النظام العام".([29])
وقد قررت الهيئة القضائية العليا:
"الأصل براءة الذمة من حقوق الله تعالى وحقوق العباد، حتى يثبت ما يرفع تلك البراءة". ([30])
وقد استقر قضاء محكمة النقض المصرية:
يشترط لاعتبار الدين بعد سقوطه التزاماً طبيعياً ألا يكون مخالفاً للنظام العام، ولما كان التقادم في المسائل الجنائية يعتبر من النظام العام؛ فإنه إذا تكاملت مدته لا يتخلف عنه أي التزام طبيعي، فمتى كان الحكم قد قرر أن دفع الغرامة من المحكوم عليه بعد سقوطها بالتقادم يعتبر بمثابة وفاء لدين طبيعي لا يصح استرداده، فإن هذا الحكم يكون خالف القانون. ([31])
للاطلاع على المزيد من شروحات الأنظمة المختلفة؛
يمكنك تصفح قسم شروحات الأنظمة في منصة محاكمة.
([1]) د. عبد الرازق أحمد السنهوري، الوسيط في شرح القانون المدني، الجزء الثالث، نظرية الالتزام بوجه عام (الأوصاف - الحوالة – الانقضاء) المرجع السابق، ص 177.
([2]) د. حسن عبد الباسط جميعي، النظرية العامة للالتزامات، أحكام الالتزام، طبعة 2004/2005م، دار التعاون للطباعة، ص 9.
([10]) فتوى الجمعية العمومية لقسمي الفتوى والتشريع بمجلس الدولة المصرية رقم 190 بتاريخ 5/3/2014، جلسة 20/11/2013، ملف رقم (4037/2/32).
([11]) فتوى الجمعية العمومية لقسمي الفتوى والتشريع بمجلس الدولة المصرية رقم 11 بتاريخ 11/1/2014، جلسة 3/4/2013، ملف رقم (4151/2/32).
([13]) د. حسين بن عبد العزيز آل الشيخ، المبادئ القضائية في الشريعة الإسلامية وارتباط النظام القضائي في المملكة العربية السعودية بها، 1426هـ، ص 4.
[14] أخرجه البخاري من حديث أم سلمة رضي الله عنها، في كتاب المظالم، باب إثم من خاصم في باطل وهو يعلمه رقم (2458) 2/194، وفي كتاب الشهادات، باب من أقام البينة بعـد اليمين رقـم (2680) 2 /261، وفي كتاب الـحيل، باب (10) رقـم (6967) 4/290، وفي كتاب الأحكام، باب موعظة الإمام للخصوم رقم (7169) 4/335، وفي باب من قضي له بحق أخيه فلا يأخذه رقم (7181) 4/339، وفي باب القضاء في كثير المال وقليله رقم (7185) 4/339، ومسلم في كتاب الأقضية، باب الحكم بالظاهر واللحن بالحجة رقم (1713) 3/1337.
[15] الأمام الحافظ الفقيه زين الدين أبي الفرج عبد الرحمن بن شهاب الدين البغدادي ثم الدمشقي الشهير بابن رجب، جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثاً من جوامع الكلم تحقيق. شعيب الأرناؤوط، إبراهيم باجاس، مؤسسة الرسالة، الجزء الثاني، ص 32.
([16]) د. حسين بن عبد العزيز آل الشيخ، المبادئ القضائية في الشريعة الإسلامية وارتباط النظام القضائي في المملكة العربية السعودية بها، 1426هـ، ص10.
[17] وسائل الإثبات للزحيلي، ص 38-44.
[18] د. حسن عبد الباسط جميعي، النظرية العامة للالتزامات، أحكام الالتزام، المرجع السابق، ص 14-15.
([27]) يعقوب الباحسين، الحكم الشرعي حقيته أركانه شروطه أقسامه، الرياض، مكتبة الرشيد، 2010م، 1431هـ، ص51-52.